سورة يونس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي بل أيقولون افتراه محمد عليه الصلاة والسلام والهمزةُ لإنكار الواقِع واستبعادِه {قُلْ} تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان مقالتِهم الفاسدةِ إن كان الأمر كما تقولون {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} أي في البلاغة وحسنِ الصياغةِ وقوةِ المعنى على وجه الافتراءِ فإنكم مثلي في العربية والفصاحةِ وأشدُّ تمرناً مني في النظم والعبارة، وقرئ {بسورةِ مثلِه} على الإضافة أي بسورة كتابٍ مثلِه {وادعوا} للمظاهرة والمعاونة {مَنِ استطعتم} دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون بأنها مُمِدةٌ لكم في المُهمات والمُلماتِ، ومدارِهِكم الذين تلجأون إلى آرائهم في كل ما تأتون وما تذرون {مِن دُونِ الله} متعلقٌ بادعوا، ودون جارٍ مجرى أداةِ الاستثناءِ وقد مر تفصيله في قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} أي ادعُوا سواه تعالى من استطعتم من خلقه فإنه لا يقدِر عليه أحدٌ وأخرجه سبحانه من حكم الدعاءِ للتنصيص على براءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدوة المضادة والمُشاقّة لا لبيان استبدادِه تعالى بالقدرة على ما كُلّفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعَوْه تعالى لأجابهم إليه {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في أني افتريته فإن ذلك مستلزمٌ لإمكان الاتيانِ بمثله وهو أيضاً مستلزِمٌ لقدرتكم عليه، والجوابُ محذوفٌ لدلالة المذكور عليه.
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} إضرابٌ وانتقالٌ عن إظهار بطلانِ ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدِّي إلى إظهاره ببيانِ أنه كلامٌ ناشيءٌ عن جهلهم بشأنه الجليلِ {فما} عبارةٌ عن كله لا عما فيه من ذكر البعث والجزاءِ وما يخالف دينَهم كما قيل، فإنه مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن مثله أي سارعوا إلى تكذيبه آثرَ ذي أثيرٍ من غير أن يتدبروا فيه ويقِفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالةِ على كونه كما وُصف آنفاً ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يكون له نظيرٌ يقدر عليه المخلوقُ، والتعبيرُ عنه بما لم يحيطوا بعلمه دون أن يقال: بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحو ذلك للإيذان بكمال جهلِهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدمِ العلمِ به وبأن تكذيبَهم به إنما هو بسبب عدم علمِهم به لما أن إدارةَ الحكم على الموصول مشعرةٌ بعلية ما في حيز الصلةِ له {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} عطف على الصلة أو حالٌ من الموصول أي ولم يقِفوا بعدُ على تأويله ولم يبلُغ أذهانَهم معانيه الرائقةُ المنبئةُ عن علو شأنِه، والتعبيرُ عن ذلك بإتيان التأويل للإشعار بأن تأويلَه متوجّهٌ إلى الأذهان منساقٌ إليها بنفسه أو لم يأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين أنه صدقٌ أم كذبٌ. والمعنى أن القرآنَ معجزٌ من جهة النظمِ والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب، وهم قد فاجأوا تكذيبَه قبل أن يتدبروا نظمَه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوعَ ما أخبر به من الأمور المستقبلةِ، ونفيُ إتيان التأويل بكلمة لمّا الدالةِ على التوقع بعد نفي الإحاطةِ بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذمِّ وتشديد التشنيعِ فإن الشناعةَ في تكذيب الشيء قبل علمِه المتوقّعِ إتيانُه أفحشُ منها في تكذيبه قبل علمِه مطلقاً، والمعنى أنه كان يجب عليهم أن يتوقفوا إلى زمان وقوعِ المتوقَّعِ فلم يفعلوا، وأما أن المتوقعَ قد وقع بعدُ وأنهم استمرّوا عند ذلك أيضاً على ما هم عليه أو لا فلا تعرّضَ له هاهنا والاستشهادُ عليه بعدم انقطاعِ الذمِّ أو ادعاءُ أن قولَهم افتراه تكذيبٌ بعد التدبر ناشىءٌ من عدم التدبر فتدبر، كيف لا وهم لم يقولوه بعد التحدي بل قبل وادعاءُ كونِه مسبوقاً بالتحدي الواردِ في سورة البقرة يردّه أنها مدنية وهذه مكيةٌ وإنما الذي يدل عليه ما سيتلى عليك من قوله تعالى: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ} الخ، وقوله تعالى: {كذلك} الخ، وصفٌ لحالهم المحكيِّ وبيانٌ لما يؤدّي إليه من العقوبة أي مثلَ ذلك التكذيبِ المبنيِّ على بادي الرأي والمجازفةِ من غير تدبرٍ وتأمل {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي فعلوا التكذيبَ أو كذبوا ما كذبوا من المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائِهم أو كذبوا أنبياءَهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} وهم الذين من قبلهم من المكذبين، وإنما وضع المُظهرُ موضعَ المضمر للإيذان بكون التكذيبِ ظلماً أو بعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبةِ وبدخول هؤلاء الظالمين في زُمرتهم جزماً ووعيداً دخولاً أولياً.


وقوله عز وجل: {وَمِنْهُمُ} الخ، وصفٌ لحالهم بعد إتيانِ التأويل المتوقع، إذ حينئذٍ يمكن تنويعُهم إلى المؤمِن به وغير المؤمن ضرورةَ امتناعِ الإيمان بشيء من غير علمٍ به واشتراكِ الكلِّ في التكذيب والكفرِ به قبل ذلك حسبما أفاده قولُه تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} أي ومن هؤلاء المكذبين {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} عند الإحاطةِ بعلمه وإتيانِ تأويله وظهورِ حقّيتِه بعد ما سعَوا في المعارضة ورازُوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوعَ ما أَخبر به كما أَخبر به مراراً، ومعنى الإيمانِ به إما الاعتقادُ بحقيته فقط أي يصدّق به في نفسه ويعلم أنه حقٌّ ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاءِ هم الذين أُشير بقصْر اتباعِ الظنِّ على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحقَّ على التفسير الأول كما أشير إليه فيما سلف، وإما الإيمانُ الحقيقيُّ أي سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذي أشير بالقصْر المذكورِ على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحقَّ كما مر {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدّق به ظاهراً لفرْط غباوتِه المانعةِ عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبةِ عدمِ الإحاطةِ به أصلاً أو لسخافة عقلِه واختلالِ تمييزِه وعجزِه عن تخليص علومِه من مخالطة الظنونِ والأوهام التي ألِفَها فيبقى على ما كان عليه من الشك، وهذا القدرُ من الإحاطة وإتيانِ التأويلِ كافٍ في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطةِ بالمرة، وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا} على التفسير الأول، أو لا يؤمِن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معانداً كان أو شاركاً، وهم المستمرّون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعانٍ للحق وانقيادٍ له {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل، لاشتراكهما في أصل الإفسادِ المستدعي لاشتراكهما في الوعيد، أو بالمُصرّين الباقين على الكفر على الوجه الثاني من المعاندين والشاكين.


{وَإِن كَذَّبُوكَ} أي إن استمروا على تكذيبك وأصروا عليه حسبما أُخبر عنهم بعد إلزامِ الحجةِ بالتحدي {فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي تبرأ منهم فقد أعذرتَ كقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء} والمعنى لي جزاءُ عملي ولكم جزاءُ عملِكم حقاً كان أو باطلاً، وتوحيدُ العمل المضافِ إليهم باعتبار الاتحادِ النوعيِّ ولمراعاة كمالِ المقابلة {أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} تأكيدٌ لما أفادته لامُ الاختصاص من عدم تعدّي جزاءِ العمل إلى غير عاملِه أي لا تؤاخَذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، ولما فيه من إيهام المتاركةِ وعدم التعرضِ لهم قيل: إنه منسوخٌ بآية السيف.
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بيانٌ لكونهم مطبوعاً على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم، وإنما جمع الضميرُ الراجعُ إلى كلمة مَنْ رعايةً لجانب المعنى كما أفرد فيما سيأتي محافظةً على ظاهر اللفظِ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناءً على عدم توقفِ الاستماع على ما يتوقف عليه النظرُ من المقابلة وانتفاءِ الحجاب والظُلمة، أي ومنهم ناسٌ يستمعون إليك عند قراءتِك القرآنَ وتعليمِك الشرائعَ {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} همزةُ الاستفهامِ إنكاريةٌ والفاءُ عاطفةٌ وليس الجمعُ بينهما لترتيب إنكارِ الإسماعِ كما هو رأيُ سيبوبهِ والجمهور على أن يجعل تقديمُ الهمزة على الفاء لاقتضائها الصدارةَ كما تقرر في موضعه بل لإنكار ترتُّبِه عليه حسبما هو المعتادُ لكن لا بطريق العطفِ على الفعل المذكورِ لأدائه إلى اختلال المعنى، لأنه إما صلةٌ أو صفةٌ وأياً ما كان فالعطفُ عليه يستدعي دخولَ المعطوفِ في حيزه وتوجّهَ الإنكارِ إليه من تلك الحيثية ولا ريب في فسادة، بل بطريق العطفِ على مقدر مفهومٍ من فحوى النظمِ، كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم لا إنكاراً لاستماعهم فإنه أمر محقق بل إنكاراً لوقوع الاستماعِ عقيبَ ذلك وترتبِه عليه حسب العادةِ الكليةِ بل نفياً لإمكانه أيضاً كما ينبىء عنه وضع الصمِّ موضعَ ضميرِهم ووصفِهم بعدم العقلِ بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي ولو انضم إلى صممهم عدمُ عقولِهم لأن الأصمَّ العاقلَ ربما تفرس إذا وصل إلى صِماخه صوتٌ وأما إذا اجتمع فقدانُ السمع فقد تم الأمر {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ويعاين دلائلَ نبوّتك الواضحة {أَفَأَنتَ} أي أعقيبَ ذلك أنت تهديهم وإنما قيل: {تَهْدِى العمى} تربيةً لإنكار هدايتِهم وإبرازاً لوقوعها في معرض الاستحالةِ وقد أكد ذلك حيث قيل: {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي ولو انضم إلى عدم البصَر عدمُ البصيرة فإن المقصودَ من الإبصارِ الاعتبارُ والاستبصارُ، والعمدةُ في ذلك هي البصيرةُ ولذلك يحدس الأعمى المستبصرُ ويتفطن لما لا يدركه البصيرُ الأحمقُ فحيث اجتمع فيهم الحمَقُ والعمى فقد انسد عليهم بابُ الهدى، وجوابُ لو في الجملتين محذوف لدلالة قوله تعالى: {تُسْمِعُ الصم} و{تَهْدِى العمى} عليه وكلٌّ منهما معطوفةٌ على جملة مقدرةٍ مقابلةٍ لها في الفحوى كلتاهما في موضع الحال من مفعول الفعلِ السابق، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون، أفأنت تهدي العميَ لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون، أي على كل حال مفروضٍ، وقد حذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدِلالة الثانية عليها دِلالةً واضحةً فإن الشيءَ إذا تحقق عند تحققِ المانعِ أو المانع القويِّ فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أو عند تحققِ المانعِ الضعيفِ أولى، وعلى هذه النُكتةِ يدور ما في لو وأن الوصلتين من التأكيد وقد مر الكلام في قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ} ونظائرِه مراراً.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13